اسماعيل ابو البندورة
الاردنيون الآن "كما نلاحظ، ونقرأ، ونسمع، ونشاهد، ونحن بالطبع لانتحدث باسم الجميع" في حالة قلق مما هو قائم، ومما هو آت، بفائض من التوقعات، وغيظ من غياب القرار واليقين، وافراط في الدهشة، لم يشهدوا له مثيلا منذ اربعة عقود، ذلك أنهم اصبحوا امام واقعة، وحراجة، وخطورة السؤال حول سيرورة "الصيغة الاردنية" وما يتهددها، وهي الصيغة السياسية الاجتماعية التي كانت بمثابة ميثاق وعهد غير مكتوب، وعقد اجتماعي سلمي تعايشي، تعارف عليه الناس وقبلوه طوعا، ولكن هذه الصيغة اصبحت الآن (وسواء افتعالا أو واقعا) موضع سؤال ورهان وامتحان، وهل تبقى وتستمر كما كانت في الماضي بمعانيها وانتظامها، أم انها تستمر مع مزيد من الاصلاح، والتجديد، والتعديل، والموائمة، والتوافق، واعادة البناء، أم أنها سوف تتشتت بين الرؤى والصياغات، والابتداعات الهووية، والاسترجاعات السلبية، والاجتهادات المتناقضة التي يمكن أن تدخل البلاد في حال من الفوضى غير الخلاقة حتما؟
"الصيغة الاردنية" نشأت وتكونت على ضوء واقع جغرافي وتاريخي ومواثيق متعارف عليها ومعترف بها، وتطورت على ضوء ذلك، واخذت ابعادا محددة، وصيغة من المواطنة، ومرت بمراحل من المد والجزر اختلف الناس حولها احيانا، وتجاذبوا الاطروحات والمطارحات فيها، وائتلفوا في معظم الاحيان، راضين بما قسم لهم الله من نصيب سياسي وانتظام اجتماعي، وتوافقوا ضمنا على استمرارها باعتبار الاستمرار علامة الرضى، وباعتبار أنها الأفضل لحماية الوطن وصيانة وحدته الوطنية، وفي التطلع الى المستقبل.
و"الصيغة الاردنية " التي نعني هنا ليست مسألة سياسية وحسب، وانما هي قضية وجود حالي ومستقبلي، ومعاش وتعايش انساني سلمي، ومفردات شعبية وانسانية كثيرة اصبحت تتداخل وتتفاقم، وتصطرع احيانا لكي تنتج في النهاية وضعا ملتبسا وقلقا، وتزرع في العقول والافئدة هموما وجودية كثيرة تبدأ بالامن والامان والاستقرار، وتنتهي بكل الافتراضات الموحشة والمتوقعة في المستقبل.
وحتى لانقع في عملية تعداد تقليدية ومدرسية للهموم الاردنية المتداولة والراهنة، ولكي لانريح العقل البسيط والمتعجل والكسول الراغب في الاجابات الارتجالية والمتسرعة، فاننا نسعى الى تأسيس ارضية فكرية وطنية تشاركية لاستجلاء هذه الهموم وعرضها من خلال دمجها وادماجها في اطارات وكليات اشمل، لكي تصبح مشهدا كليا نرى فية الشجرة والغابة معا ويكون المطلوب والمقصود من تأسيس الارضية مقاربة الازمة بكل مانملك من افكار خصبة ومنتجة قد تفتح "الازمة" على صفحات ايجابية تلغي وتقلب الصفحة السلبية السائدة.والحديث الكلي والشمولي لايلغي ولا يؤجل الحديث عن التفاصيل والمفردات، ولكنه يضبط عملية التفكير، ويقلل من الاستغراق في متاهات التفاصيل، ويضع العقل امام اولوياته، ويوجه اشتغاله نحو البحث عن الحلول والبدائل.
صورة القلق الآخر الذي يمكن وضع اليد عليه، هو مايلاحظه الاردنيون من غياب السياسات وضعف وقصور الادراك والاداء السياسي والافتقار الى القدرة على صناعة القرار الجمعي، والبطء والعجز في قراءة المشهد العربي الراهن والذي تكون وتصاعد من حولنا منذ عامين، ويصل هدير مدافعه الى اسماعنا، واستشراف واستشعار انعكاساته على الاردن، ومدى القدره على استيعابه، وتحويله الى فرصة وامكانية للمراجعة، وتغيير ونقد السياسات والمناهج، واستباق الازمات، والانفتاح على الشعب ميدانيا لتفهم مشاكله وهمومه وتطلعاته، وعدم الاقتصار والاغتباط بالحوارات النخبوية والانتقائية خالية الدسم، والتي لاتعبر عن الواقع بشكل حقيقي وصادق، وتعيد انتاج صيغ الانتماء والطاعة السلطانية التقليدية التي تقوم في جانب منها على المجاملات والافتخارية والكلامولوجيا!
وتأسيسا على هذه الملاجظة يرى الاردنيون ويقلقون من امكانية تدفق الزلازل والاندفاعات والتداعيات علينا من كل جانب، ونحن في منطقة اصبجت كأنها على فوهة بركان، ولانعرف كبف نتعامل مع هذه التداعيات أو الوقوف في طريقها، حتى لاتحول حياتنا نحن الى جحيم وفوضى!!
والممكن والمفترض في مثل هذه الحالات أن تكون هناك رؤى وسيناريوهات معدة لمثل هذه الاغراض، وأن تكون هناك سياسات واضحة، ومواقف جدية غير متحركة، تحدد ماهو مطلوب في مثل هذه الحالات الاستثنائية، ومايجب اتخاذه من اجراءات للحؤول دون اقتراب هذه الزلازل منا. ولن يكون التردد والارتباك "وانتظار جودو" في مثل هذه الحالة هو الخيار الصائب والممكن والوحيد، وانما الاستيعاب والاستشراف، والاستغراق في وضع الحلول البديلة وتحصين البلد بمواقف سياسية واضحة ووقائية هدفها صيانته والمحافظة على موقفه القومي العروبي في مقاربة الأزمات العربية. ولنا في الموقف ممايجري في سوريا خير دليل على الارتباك والاختلاط والتردد في صياغة التصور وصناعة القرار، وعدم وضوح السياسات والانقسام الشعبي الكبير حولها وحول تعريفها والتعامل معها، وحول الموقف القومي المطلوب تجاهها.
ويقلق الاردنيون من هموم المعاش ودوام الحياة في مجتمع استهلاكي لايرحم، وتتفرع عن ذلك هموم كثيرة ومؤرقة تبدأ بالعطش ولا تنتهي بالدخول المحدودة، واستشراء الفساد، وهدر الثروات الوطنية، وهي مسائل تتفاقم وتتكاثر الاسئلة والتظلمات حولها، وحول مآلاتها، ولاتجد في المقابل من يجيب عليها اجابات واضحة ومقنعة، ذلك أن الناس اصبحوا يرون التفاوت والتهافت والتهاون والتفريط والتبديد، ولايجدون من يضع حدا منطقيا لمثل هذه القضايا، ولذا ترى الناس الآن في كل واد يهيمون، ولا يعلمون، وتتزايد بينهم ثقافة التعدي، والاتهام، والعزوف، والحيرة والانشداه، وكل صور وتعبيرات الانجراحات النفسية، وذهنية الشعب المقهور والمهدور والتي اصبحت تتكثف في الافئدة، ولا تجد لها مخرجا أو متنفسا، وعلية يتزايد الاحتقان والاحباط، والبحث عن الحلول اللآعقلانية والتدميرية التي كانت دائما خارج اطار ومفاهيم " الصيغة الاردنية" السلمية التعايشية.
ويمكن ببساطة أن تتوضح وتتبلور مثل هذه الامور وتتحدد امام عقل الناس، وتوضع لها الحلول بالمكاشفة والمصارحة، ومن خلال مخاطبة واعية، واعلام شفاف ونزيه يقدّر الامور بصورة وطنية فعالة، ويسعى الى خلق رأي عام وطني معاكس يشد الناس الى دورهم ومسؤولياتهم، ويبسط الامور امام عقولهم، لكي يكونوا على بينة من امرهم ومن كل مايجري، ولكي يتحملوا مسؤولياتهم في خلق وابتداع مبادرات تؤدي في النهاية الى تعميق وتجديد صيغ التشارك والاندماج والوحدة الوطنية، والانكباب على المشاركة الواعية والفاعلة، ووضع الحلول والبدائل والتوقف عن الندب واللعن، أو الذهاب الى الفوضى، واشعال الاطارات، واغلاق الطرق، باعتبارها الطريقة التهديدية والتصعيدية الوحيدة المتاحة للمخاطبة والمطالبة بالحقوق.
ويتبدى للاردنيين الآن أن أم القضايا هي الثقة وجودا وانعداما، وهي المحرك للكثير من المشاكل والقضايا واصبحت تشكل قلقا وطنيا عاما واشكالية كبرى لابد من تفكيك عناصرها وأسبابها، و كل مايتفرع عن عدم الثقة من اختلاط واشتباه، وتدني النظرة الى المؤسسات، وطريقة صناعة القرار، اذ أنه عندما تهتز مثل هذه الاركان في الدولة (كما يشير الى ذلك كل علماء السياسة) وتنعدم الثقة بينها وبين الشعب يتخلخل الركن الاساس في بناء واستمرارية الدولة، ويصبح الاختلال اعتلالا ونخرا في التكوين والبنية، لايصلحه الا مبادرات كبيرة لاعادة الثقة واعادة بناء عقل الدولة والثقة بها في وعي شعبها بطريقة عقلانية وعلى أسس جديدة. اننا نشير الى ذلك ونتمنى أن لايتفاقم لأن الدولة أساس وقاعدة لايجوز أن تكون موضع تجاذب، ونسعى جميعا الى أن لاتضيع لديها الهيبة وأن لا تهتز البنية، وأن تبقى واقيا وحاميا من الانفلات والتخبط والتفكك.
اننا نتحدث اذن عن ثلاثة قضايا وهموم وطنيه : وهي "الصيغة الاردنية " القادرة على الاستمرار من خلال الاصلاح والانخراط في عملية التغيير الحقيقي.
وسوء وتدني المعاش باعتباره مصدرا مستديما لللاحتقان والمظلومية. وانعدام الثقة بين الشعب والدولة باعتباره مدخلا للاضطراب والفوضى، ويمكن أن نواصل الحديث الهاديء عن مثل هذه الهموم ومصادر القلق حتى نصل الى الحل البديل واليقين المبين والله من وراء القصد!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق