قصـــة للمســــاء
الزنـزانة
من مجموعة طريد الظل
سعادة أبو عراق
من مجموعة طريد الظل
سعادة أبو عراق
لم يؤذّن للصبحِ بعد ، ولم تزلْ المفاجأةُ المرعبةُ قائمةً ، فأيُ وقع لأقدامٍ سيعني إفراغَ زنزانةٍ من ساكنها ، واقتياده بصمت إلى هولٍ لا يحيط به خيال ، كم هي رهيبةٌ هذه الساعات التي تسبق الفجر ، تجرجر دقائقها عنيفة في أحشائك أيها المسكين ، آلامك مبهمةٌ ، لا تجد لوصفها تعبيراً ، تهب عليك ، تنشر حريقها في أعصابك فيغلي لها دماغك ، تتفتت أجزاؤك ، فتعرف لو شئت كم استهلكت من نفسك ، وترصد انهيارك كل يوم ، فهل تخمد أحاسيسك قبل تلك الساعة ؟
طويل هذا الدهر الذي امتد شهورا عشرة ، أبعدك عن تفصيلات ما حدث ، كأنك استهلكتها أو نبذتها ، وما عدت ترى فيها ملاذا ، فاستسلمت لإحباطٍ أقعدك كئيبا ، يأكلك القلق والوحدة وانتظار اللحظة الرهيبة .
كم خاطر مر بك تلو الخاطر ، على غير إرادة منك ولا تقدير ، كأنك تعلم لأول مرة أن الفكر يعمل ذاتيا ، لا تقوى على إيقاف تسارعه، فها هو يقذف بك من سوداوية الندم ، إلى واحة التفاؤل ، ينطلق بك من حقد على قوانين لا تعرف الرحمة إلى عفو عام يخرجك مبرأ أو كالمبرأ ، من أمل الاستئناف المتكرر إلى التوبة الناصعة النصوح ، من استغاثات المغدورين الذين استمتعت بالإجهاز عليهم ،
إلى ندم يطحنك ويجعلك عاجزا عن إصلاح ما بدر .
إنها الهزَّةُ التي نثرتك أجزاءً ، فما عدت مؤتلف البدن ولا مترابط الأعضاء ولا سويَّ المشاعر ، فشهيتك وبولك ونومك وقواك لا تطيعك كما ينبغي، معاناة شاقة تسكنك ، ودوامة من الأفكار تصهل في دماغك ، تبرق ترعد ، تستفرد بك في هذه الزنزانة الرطبة الضيّقة ، وتستسلم لسيناريو مرعب ، يدهمك بلا استئذان ، يبتدئ بك من إيقاع الأقدام الثقيلة بعيدا في نهاية الممر ، تستشعرها ، فتـزداد انكماشا ولا تدري بما تتشبث ، حينما يفتحون عليك الباب بصرير ناعق ، ينهار آخر حصن تلوذ به ، يتحلقون حولك كقتلة المافيا، رغم ملاطفتهم إياك ، وما ينثرون عليك من رثاء وشفقة ، يستوضحونك بأريحية عن طلبك الأخير ، ويتلون عليك آيات من القرآن الكريم ، يهدئون من روعك ، يقودونك إلى ما لم يسبق لخيالك تصوره ، فكم سيمضي بك العذاب متأرجحا على الحبل ..!؟
كم من مرة تدربت على هذا السيناريو ؟ لعلك تهيئ نفسك لأمر لا بد منه ، فكلما غزاك ، فانك تشعر بانقطاع حبل آخر يربطك بالحياة ، ويغادرك الحلم بالخروج ، وتنطفئ في ذهنك الوجوه التي طالما أسعدتك ، وتنسى الآمال التي كانت تدفعك إلى حلم بالثراء الباذخ والعيش المرفّه ، أي شيء لم يتحطم في داخلك ، ها قد أصبحت هيكلا مفرغا ، شجرة تساقط لحاؤها وناكفتها جذورها ، وأسلمتها الشمس لليباس .
لم يؤذن للفجر بعد ، وما زال الظلام يرفدك بالأفكار السوداء، والأسئلة الوجودية المالحة ، لا تخرج منها إلا لتغوص بها أكثر ، أكان ضروريا أن تولد لكي تموت ؟ وما جدوى المسافة الفاصلة بين الميلاد والاحتضار ؟ لعل ثقافتك وتعليمك لا يسعفانك مع هذه اللجّة من الأفكار الوجودية , لكن.. . هل أقنعت نفسك بان الموت والحياة سيّان ؟ وان مسافة الانتقال بسيطة ، ربما .. فالوقت يعبرك متشابها بلا سمات ، ترى ...!! هل فقدت الإحساس بالعيش وانتظار الآتي ، كيف دفعك الزمن الزلق إلى نهاية القمع ، إلى تلك السويعة التي تسبق الفجر .
كم كان الذين ماطلوا بالتنفيذ على حكمة وبصيرة ، إذ جعلوك تتآكل على مهل طوال هذه الشهور ، تغسل نفسك من كل الأدران ، التي شوّهت داخلك ، من تلك النوازع البدائية ، التي كانت تنضحك بالهوس التسلطي الذي أسقطك في الجريمة ، لقد نبذت نوازعك ، وتقسم على ذلك ، لكن خروجها جوفك ، وتركك فارغا بلا محتوى ، فلو حملت أهدافا أرقى لصار لحياتك الآن معنى ولموتك قيمة ، فهل تسعفك ملكاتك بهدف يثري أيامك التي تأملها في هذه الحياة ؟ لقد نضب فكرك وذوى خيالك وخارت قواك ، إذن فما جدوى السويعات التي تحرص عليها ؟ لعلك أدركت الآن بأنك تحيا بلا جدوى ، وان الميتين وحدهم لا يحلمون ولا يفكرون ولا يخططون ولا يفعلون شيئا ..!
ها أنت تسمع جلبة غامضة من بعيد ، أتراها الوساوس القهرية أم الحقيقة المحتومة ؟ لماذا تتمنى أن تخطئك هذه المرَّة أيضا ؟ فما جدوى أن تربح يوما آخر في هذه الحياة ؟ تجلّد .. .. فحتّام متى تؤجل حياة لا هدف فيها ولا مأرب ؟
8 /9 /
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق