14 فبراير 2013

الزنـزانة - من مجموعة طريد الظل


قصـــة للمســــاء
الزنـزانة
من مجموعة طريد الظل
سعادة أبو عراق


لم يؤذّن للصبحِ بعد ، ولم تزلْ المفاجأةُ المرعبةُ قائمةً ، فأيُ وقع لأقدامٍ سيعني إفراغَ زنزانةٍ من ساكنها ، واقتياده بصمت إلى هولٍ لا يحيط به خيال ، كم هي رهيبةٌ هذه الساعات التي تسبق الفجر ، تجرجر دقائقها عنيفة في أحشائك أيها المسكين ، آلامك مبهمةٌ ، لا تجد لوصفها تعبيراً ، تهب عليك ، تنشر حريقها في أعصابك فيغلي لها دماغك ، تتفتت أجزاؤك ، فتعرف لو شئت كم استهلكت من نفسك ، وترصد انهيارك كل يوم ، فهل تخمد أحاسيسك قبل تلك الساعة ؟
طويل هذا الدهر الذي امتد شهورا عشرة ، أبعدك عن تفصيلات ما حدث ، كأنك استهلكتها أو نبذتها ، وما عدت ترى فيها ملاذا ، فاستسلمت لإحباطٍ أقعدك كئيبا ، يأكلك القلق والوحدة وانتظار اللحظة الرهيبة .
كم خاطر مر بك تلو الخاطر ، على غير إرادة منك ولا تقدير ، كأنك تعلم لأول مرة أن الفكر يعمل ذاتيا ، لا تقوى على إيقاف تسارعه، فها هو يقذف بك من سوداوية الندم ، إلى واحة التفاؤل ، ينطلق بك من حقد على قوانين لا تعرف الرحمة إلى عفو عام يخرجك مبرأ أو كالمبرأ ، من أمل الاستئناف المتكرر إلى التوبة الناصعة النصوح ، من استغاثات المغدورين الذين استمتعت بالإجهاز عليهم ،
إلى ندم يطحنك ويجعلك عاجزا عن إصلاح ما بدر .
إنها الهزَّةُ التي نثرتك أجزاءً ، فما عدت مؤتلف البدن ولا مترابط الأعضاء ولا سويَّ المشاعر ، فشهيتك وبولك ونومك وقواك لا تطيعك كما ينبغي، معاناة شاقة تسكنك ، ودوامة من الأفكار تصهل في دماغك ، تبرق ترعد ، تستفرد بك في هذه الزنزانة الرطبة الضيّقة ، وتستسلم لسيناريو مرعب ، يدهمك بلا استئذان ، يبتدئ بك من إيقاع الأقدام الثقيلة بعيدا في نهاية الممر ، تستشعرها ، فتـزداد انكماشا ولا تدري بما تتشبث ، حينما يفتحون عليك الباب بصرير ناعق ، ينهار آخر حصن تلوذ به ، يتحلقون حولك كقتلة المافيا، رغم ملاطفتهم إياك ، وما ينثرون عليك من رثاء وشفقة ، يستوضحونك بأريحية عن طلبك الأخير ، ويتلون عليك آيات من القرآن الكريم ، يهدئون من روعك ، يقودونك إلى ما لم يسبق لخيالك تصوره ، فكم سيمضي بك العذاب متأرجحا على الحبل ..!؟
كم من مرة تدربت على هذا السيناريو ؟ لعلك تهيئ نفسك لأمر لا بد منه ، فكلما غزاك ، فانك تشعر بانقطاع حبل آخر يربطك بالحياة ، ويغادرك الحلم بالخروج ، وتنطفئ في ذهنك الوجوه التي طالما أسعدتك ، وتنسى الآمال التي كانت تدفعك إلى حلم بالثراء الباذخ والعيش المرفّه ، أي شيء لم يتحطم في داخلك ، ها قد أصبحت هيكلا مفرغا ، شجرة تساقط لحاؤها وناكفتها جذورها ، وأسلمتها الشمس لليباس .
لم يؤذن للفجر بعد ، وما زال الظلام يرفدك بالأفكار السوداء، والأسئلة الوجودية المالحة ، لا تخرج منها إلا لتغوص بها أكثر ، أكان ضروريا أن تولد لكي تموت ؟ وما جدوى المسافة الفاصلة بين الميلاد والاحتضار ؟ لعل ثقافتك وتعليمك لا يسعفانك مع هذه اللجّة من الأفكار الوجودية , لكن.. . هل أقنعت نفسك بان الموت والحياة سيّان ؟ وان مسافة الانتقال بسيطة ، ربما .. فالوقت يعبرك متشابها بلا سمات ، ترى ...!! هل فقدت الإحساس بالعيش وانتظار الآتي ، كيف دفعك الزمن الزلق إلى نهاية القمع ، إلى تلك السويعة التي تسبق الفجر .
كم كان الذين ماطلوا بالتنفيذ على حكمة وبصيرة ، إذ جعلوك تتآكل على مهل طوال هذه الشهور ، تغسل نفسك من كل الأدران ، التي شوّهت داخلك ، من تلك النوازع البدائية ، التي كانت تنضحك بالهوس التسلطي الذي أسقطك في الجريمة ، لقد نبذت نوازعك ، وتقسم على ذلك ، لكن خروجها جوفك ، وتركك فارغا بلا محتوى ، فلو حملت أهدافا أرقى لصار لحياتك الآن معنى ولموتك قيمة ، فهل تسعفك ملكاتك بهدف يثري أيامك التي تأملها في هذه الحياة ؟ لقد نضب فكرك وذوى خيالك وخارت قواك ، إذن فما جدوى السويعات التي تحرص عليها ؟ لعلك أدركت الآن بأنك تحيا بلا جدوى ، وان الميتين وحدهم لا يحلمون ولا يفكرون ولا يخططون ولا يفعلون شيئا ..!
ها أنت تسمع جلبة غامضة من بعيد ، أتراها الوساوس القهرية أم الحقيقة المحتومة ؟ لماذا تتمنى أن تخطئك هذه المرَّة أيضا ؟ فما جدوى أن تربح يوما آخر في هذه الحياة ؟ تجلّد .. .. فحتّام متى تؤجل حياة لا هدف فيها ولا مأرب ؟
8 /9 /

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لا تجعل لمن يداري شهرته بالمال، أو يجعله الأساس فيها سلطانا على مال للدولة، ولا لمن يداريها بالإظهار سلطانا على أجهزة دعاية و إعلام ولمن يداريها بالفتوحات، بغض النظر عن وصفها، ومقدار الحق والباطل ففيها سلطانا على جيش، ولا تول حقير الوزن والتأثير والموقف على الناس.. ولا لمن يغدر في الظلام، أو لا يخشى الله، سلطانا على أجهزة الأمن القومي.. وول على كل عنوان، وأي عنوان، القوي الصادق الأمين.